عاجل إلى من يهمه الأمر
3/4/2013 7:37:00 AM
3/4/2013 7:37:00 AM
الاستاذ الكبير شوقي الاسطل
" كتبت هذه الكلمات بمناسبة ما أثارته مبادرة زمزم من خلاف بين رفاق الدرب وإخوة المسيرة من الأصفياء الأوفياء العاملين من أجل الرفعة والتمكين لدين رب العالمين ، قاصدا بها الذكرى والذكرى تنفع المؤمنين "
إن الاختلاف بين العقلاء الأخيار ميدانه العقول لا القلوب ،فإن انتقل إلى القلوب فرقها وباعد بينها ، ومن هنا جاءت وصية الإمام جعفر الصادق ـ علبه السلام ـ (دعوا المراء فإنه افتراق في القلوب ) لقد اختلف كبار صحابة رسول الله ـصلى الله عليه وسلم ـ في قضايا كثيرة في حياته دون أن يؤثر ذلك على أخوتهم ،أو ينال من وحدتهم فلكم اختلف أبو بكر مع عمر ،وهما من هما في فضلهما الذي لا يدانى ،ومكانتهما التي لا تنكر ، ولم يهز هذا الاختلاف ما بينهما من عرى المحبة وجسور الوئام ،فها هو الصديق يستخلفه من بعده ،ويقول لرعيته ساعة احتضاره : (إني ولبت أمركم خيركم في نفسي ) الطبري 2/ 353 .
ومن درر القصص المروية الدالة على رسوخ هذه القيمة النبيلة (قيمة المحبة رغم الإختلاف) ما أخرجه الحافظ أبو نعيم عن ضرار الكناني ،- وكان من شيعة علي ومؤازريه - قال :دخلت على معاوية بعد ان استتب له الأمر ،فقال لي :صف عليا ، فقلت :أو تعفيني يا أمير المؤمنين ؟؟ قال :لا أعفيك ، فقلت:أما إذ لا بد فإنه والله كان بعيد المدى ،شديد القوى،يقول فصلا ،ويحكم عدلا،يتفجر العلم من بين جوانبه ،وتنطق الحكمة من نواحيه،بستوحش من الدنيا وزهرتها ،و يستأنس بالليل وظلمته،كان والله غزير العبرة طويل الفكرة،يقلب كفيه ويخاطب نفسه،يعجبه من اللباس ما قصر ،و من الطعام ما خشن، يعظم أهل الدين ،ويحب المساكين،لا يطمع القوي في باطله ،ولا ببأس الضعيف من عدله ، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه،وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه يميل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم،ويبكي بكاء الحزين ، فكأني أسمعه الآن وهو يقول للدنيا " هيهات هيهات ، غري غيري،قد بتتك ثلاثا ، فعمرك قصير ، ومجلسك حقير،وخطرك يسير،آه آه من قلة الزاد،ووحشة الطريق" فوكفت دموع معاوية على لحيته،حتى جعل ينشفها بكمه ، ثم قال :كذلك كان والله أبو الحسن .
فما وقع بين علي ومعاوية من خلاف دام مؤلم لم يحمله على ظلمه أو انتقاصه ،بل نجده مقرا يفضله طالبا له الرحمة.
وفي موقف علي كذلك من مخالفيه درس وعبرة،يقول ابن الأثير"مر علي على طلحة بن عبيد الله ـ وكان من مخالفيه ـ عقب موقعة الجمل وهو صريع فقال :لهفي عليك أبا محمد ، إنا لله وإنا إليه راجعون ،والله لقدكنت أكره أن أرى قريشا صرعى،أنت والله كما قال الشاعر : فتى كان يدنيه الغنى من صديقه * إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
إنه لأمر محزن أن تغيب أخلاق الاخنلاف حتى عن كثير من العاملبن في حقل الدعوة إلى الإسلام اليوم ، مما يقتضي التذكير ببعضها في هذا المقام :
1- حسن الظن بالمخالف ، والتأدب في الخطاب معه : وهو أدب رفيع تحلى به أولئك الأفذاذ من السلف الكرام ، روى الإمام مالك في الموطأ أنه قد ذكر لعائشة أن ابن عمر يقول ( إن الميت ليعذب ببكاء الحي ) فقالت" يغفر الله لأبي عبدالرحمن ، أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ ، انما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم-بيهودية يبكي عليها أهلها فقال : إنكم لتبكون عليها ، وإنها لتعذب في قبرها ".
والناظر في هذه القصة يلمس الأدب الجم لدى أم المؤمنين وهي ترد مقالة ابن عمر -رضي الله عنه – فقد ابتدأت بالدعاء له بالمغفرة ، وكنته بأحب الكنى اليه ، ونفت عنه صفة الكذب ، ثم التمست له العذر، وبعد ذلك ساقت وجهة نظرها في المسألة من غير عنف ولاصخب ولامنكر من القول ، أو اتهام للنوايا ، أو تشكيك في المقاصد ، وصدق من قال : إن أدب العلم أكثر وأجل من العلم.
2- التجرد من الهوى : فالهوى من أعظم أبواب الشيطان إلى قلوب العباد ، لذا فقد حذر الله منه نبيه الكريم داود عليه السلامفقال ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولاتتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله )26 ص ،فصاحب الهوى لايمكن أن يصل إلى الحق أو يذعن للحقيقة لوجود الخلل في ميزانه ، يقول ابن القيم - رحمه الله–(إن جعل الحق تبعا للهوى فسد القلب والعمل والحال والطريق ).
ويقول ابن تيمية رحمه الله (......وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة إذا كان كل واحد منهم يعتقد أن الحق معه وأنه على السنة ، فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رئاستهم أو ما نسب اليهم لايقصدون أن تكونكلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله ، بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدا معذورا ، ويرضون عمن وافقهم وإن كان جاهلا سيء القصد ليس له علم ولاحسن قصد )منهاج السنة النبوية /5 /255 .
3- الإنصاف وإعطاء كل ذي حق حقه :وهو أدب قرآني عظيم أكده الله تبارك وتعالى في كتابه لتتمثله الجماعة المسلمة في كل زمان ،فقالمنصفا لصنف من الأعداء : ( ومن أهل الكتاب من تأمنه بقنطار يؤده إليك ) 75 آل عمران ،وهذه والله العدالة المطلقة التي ربى عليها القرآن أفراد الجماعة المسلمة ، فما من أحد بعد المعصوم صلى الله عليه وسلم إلا وقد قبل منه ورد عليه ، ولكن من غلب فضله نقصه وهب نقصه لفضله ، كما قال سعيد بن المسيب - رحمه الله- .
لقد كان عبد الرحمن بن مهدي شيخ البخاري يوثق محمد بن راشد ويروي عنه ، فاعترض عليه بعضهم فقالوا : إنه قدري ، فقال لهم : (فما يضره أن يكون قدريا ،
يعني مادام ثقة في الحديث )الميزان /3 /544 .
ويقول الإمام الذهبي عن إبان بن تغلب ( شيعي جلد ، لكنه صدوق فلنا حديثه وعليه بدعته ).
وقد سئل الإمام علي - عليه السلام– عن خصومه الذين قاتلوه ونقضوا بيعته : أكفار هم ؟ فقال : بل من الكفر فروا ، فقيل : أمنافقون إذن؟ فقال : إن المنافقين لايذكرون الله الا قليلا ، فقيل : فماذا تقول فيهم ؟ فقال : هم إخواننا بغوا علينا .
إنها نظرة الحر المنصف الذي لاتحمله الخصومة على الفجور كما هو ديدن المنافقين ، يقول الإمام الغزالي - رحمه الله-محذرامن التعصب للرأي : إن التعصب للرأي سبب يرسخ العقائد في النفوس ، وهو من آفات علماء السوء لأنهم ينظرون إلى المخالفين بعين الاحتقار والازدراء .
4- الحرص على صفاء القلوب وبقاء المحبة رغم الإختلاف: وقد فقه السلف هذا المعنى العظيم وضربوا أروع الأمثلة في التمسك بأهدابه، فهاهو الإمام أحمد يختلف مع الشافعي فلا يؤثر هذا على أخوتهما ، بل تستمر الصلات وتتوطد العلاقات بينهما حتى يقول الشافعي في ذلك شعرا :
قالوايزورك أحمد وتزوره*قلت: الفضائل لاتفارق منزله
إن زارني فبفضله ، أو زرته*فلفضله فالفضل في الحالين له
وكان الشافعي إذا نزل المدينة حل ضيفا على الإمام مالك على الرغم مما وقع بينهما من إختلاف وصل إلى أن يقوم بتأليف كتاب في الرد عليه سماه "خلاف مالك " ولم يضعف ذلك مابينهما من أواصر لأن الخلاف بين العقلاء ميدانه العقول لاالقلوب .
وكان الليث بن سعد مع شدة اختلافه مع الإمام مالك يدعو الله في صلاته أن ينقص مدة من عمره ويزيدها في عمر مالك .
ومن الصور المؤثرة الدالة على رسوخ هذا الخلق القويم لدى الصفوة من علماء الأمة مايرويه أحد أبناء الإمام أبي الطيب القنوجي – رحمه الله – عن حال والده عندما بلغه خبر وفاة الإمام اللكنوي – وقد كان بينهما خلاف شديد في مسائل كثيرة – حيث لم يذق طعاما ولاشرابا وبكى بكاء شديدا في تلك الليلةحتى استغرب ولده وقال: أتبكي عليه وقد كان بينكما ماكان ؟ فزجره ، وقال : مالك ولهذا، أنت لاتعرف قدره ، ان العلماء يختلفون فما دخول أمثالك بينهم ؟؟!!
هذا ما وفقني الله إليه سطرته بمداد الفؤاد ، وهو سبحانه القادر على أن ينفع به قومنا وأن يحفظ صفنا ، ويوحد جمعنا ، ويديم أخوتنا ، إنه سميع مجيب .
(البوصلة)
No comments:
Post a Comment