هل أتاك حديث الجبال الشامخات في الطفيلة يا ابن العم..؟
|
احسان الفقيه
الطفيلة- احسان الفقيه
الصمت هُدْنةٌ لتلعثم المعاني وخُبث المقاصد وسطوة التضليل..
والتجاهُل احتقانٌ لحروف النّصب ونون النسوة وحريق الأفعال المنقوصة..
أما الصراخ فهو ذبحٌ لقدسيّة الألم برهافة سكينٍ وبراعة مقصلة..
أعرف أنّ الرفض أكثر جدوى من المواعظ وأن الذي يموت على حافة السُّور أكثرُ صدقا من الذي يموت بين التلاميذ..
قد لا أُجيد لغة الطباشير وقد لا أُطيق ضجيج الصفوف وأمقت بلاهة الرسوم التوضيحية في حصص العلوم الا أني جزء من أولئك الذين اختاروا أن لا يموتوا صامتين..
هناك تاريخ لم يُكتب وآخر لم يُقرأ .. وهناك من يرون أن أحزانهم تاريخ لم يُصنّف بعد كتاريخ ولكنه .. هو التاريخ..
من وجهة نظري .. الحرمان الموروث تاريخ.. فأنت محروم لأنك تريد هذا.. الصمت الجبان تاريخ فأنت جبان لأنك لا تريد الا هذا..
القبول الأحمق أيضا تاريخ .. فأنت تقبّلت الأشياء كما وُجدت عليه لأنك تظنّ أنك غير قادر الا على فعل هذا..
هذا شأنك يا ابن العم .. إن كنت لا تنتمي لي ولا تريد أن أنتمي لك - وأتحدث هنا بلسان الأرض لا بلساني..
الرفض الواعي ..المنطقي.. المهذّب هو ما يعنيني الآن كحدثٍ أردني –غير عادي- وهو أهمّ عندي من كل نظريات التاريخ ومن كُلّ ما كتب ومالم يكتب عن حقيقة ما حدث ويحدث..
وأنا التي انقسم فيها الوعي الى أجزاء قد لا يعرف بعضها أين طريق النافذة ولا يدري بعضها الآخر كيف هو شكل السماء او ما هي توليفة الفجر لإنتاج صباحات مُدهشة كصباحات الجنوب ..
تلك الصباحات التي لم يحظَ بفرصة قراءتها الا أولئك الذين يجيدون تصفُّح الشمس بعيون عاشق لايُصافح الحبيبة ولا يقترب من سور دارها مع أنّه يُقدّس بأسمائها دروب الشوق وأبجدية الإحتراق..
لم يتبقّ عندي إلا نصف لغة ونصف يقين وبعضٌ من مفردات الشغب فقد هجرتني الأنصاف الأخرى –قسرا- من أجل حياة أكثر جدوى وطريق أكثر حقيقية ونقطة وصول أشدّ وضوحا وأكثر اكتمالا..
والوُجهة "الطفيلة"..
فهل أتاك همس تلك الجبال الشامخات الصابرات المنسيّات الحانيات..؟ وهل سمعت عن أولئك الطيبين الأذكياء الواثقين الصارمين الباقين ككلّ الأشياء التي تنفع الناس وتمكُث هنا .. في القلب .. كما في الأرض..؟؟ البيوت مشرعة للجميع والجار هنا يعرف جيدا محتويات بيت الجار وعدد غرفه ونوع الأطعمة التي منعه الطبيب من أن يقترب منها ذات نوبة سُكّر.. وفقيدة ابن العوران في الطفيلة هي ذات فقيدة ابن المرايات وابن العبيديين وابن السبايلة وابن الجرابعة وابن المحيسن وابن وابن وابن..
للآذان هنا إيقاع خاص .. أعمق من مجرد نداء –معتاد للصلاة ألفته أرواحنا منذ ميلادنا الأول .. وكبار السنّ حين يذكرون اسم الله –في الطفيلة- يعرفون جيدا أنها ستغزو السماء السابعة دون محطّات لتمحيص النيّة او لإبراز وثيقة "لامانع" من أن تقصد الله مباشرة دون وسيط..
وصلت المسجد الكبير في الطفيلة مع خروج المُصلّين من صلاة ظهر الجمعة وحاولت ألا أُظهر خجلي في مدينة مُحافظة .. مشيت على مقربة منهم .. من باب المسجد حتى مبنى المحافظة عبر الشارع الرئيسي حيث الحشد الكبير والغضب الكبير والنفوس أكبر بكثير..
كنت أصغي الى مطالبهم التي تمّ تكثيفها واختزالها ضمن عبارات جريئة لم تتجاوز حدود المشروع ومايجب لنا أن نطالب به ككائنات بشرية تنتمي لمجتمع إنساني قائم يدّعي رموزه أنهم سفراء للنوايا الحسنة وأهل للتحضّر والمدنية وتحقيق العدل وحماية الإنسان..
لم أرَ أيّ تجاوز في تلك المسيرة او المظاهرة سواء من المشاركين او من رجال الأمن –ممن يرتدون ملابس أمن رسمية طبعا-، ولم أسمع قلّة أدب ولم أرمق في عيون أحدهم تورية او تحقير، ولم يعني الكثيرين من أمر وجودي الا حمايتي كضيفة لا ككاتبة ..
هناك من ظنّ أني موظفة في الأمم المتحدة وصار يردد على مسامعي كلاما أجوف من مثل: "والله مافي زي مولانا و ملكنا بالعالم كله" .. ضحكت من سخافة أسلوبه وقلت في نفسي: "ومن أتى على ذكر مولاك بسوء أيا ذلك الشيء المسخ الغريب حتى في نظرة عينيه الكاذبتين" ..
*في بيت "أبو فهد العبيديين" ..
رافقت أبا فهد العبيديين الى بيته باطمئنان تام وخلعت عني هواجسي منذ التقت عيناي وجه أم فهد والدة المُعتقليْن "فادي وقصي العبيديين" حيث جلسنا في غرفة تسبح بالضوء وبرائحة المرحبا المُعطّرة بدفق القلوب الطيبة.. لتلتحق بنا أم عمّار القبالين والدة المُعتقل مجدي القبالين بعدها بقليل ..
والثلاثة المذكورين "فادي وقصي ومجدي" من أعضاء الحراك الحُرّ في مدينة لا يُدرك حجم الغضب المُتجوّل في أحيائها الا من يجيدون قراءة الواقع والوقائع والإشارات والدلالات التي لا يُخالطها زيف ولا يقترب من حقيقيّتها الا أولئك الذين يدركون أن هناك ما هو أكبر من "الشكليات والفقاقيع البروتوكولية الدولية" والتي تقوم عليها عروش من ورق التوت والتي لن يستر عُريها صخب –الراقصين بالعتمة – طويلا.. واللبيب من الإشارة يفهم..
هناك من يحاول تشويه صورة الحراك بالإشارة الى أن أعضاءه من أصحاب السوابق وأنهم هم من قاموا بعمليات التخريب التي حدثت قبل أسبوعين والتي كانت مُبررا لحملة الإعتقالات التي سمعنا عنها وقرأنا الكثير بشأنها ..
أتساءل: لماذا لم ينحرف ذلك الحراك الذي بدأ منذ أربعة عشر شهرا عن مساره –حسب ادّعاء الأفاقين – الا في هذا الوقت بالذات..؟ نترك جواب هذا لأم فهد العبيدين التي أكّدت أن أبناءها ورفاقهم وأبناء عمومتهم من أعضاء الحراك في الطفيلة لم يخترقوا قانونا ولم يتجاوزوا حدودا ولم يطلبوا الشمس عروسا..
وحدّثتنا عن ابنها المعتقل فادي الذي أنهى الثانوية بنجاح وعمل في مفوضية العقبة "مأمور دخول وخروج للمركبات" وتم فصله تعسفيّا بعد أن طالب بحقّه وحقّ زملائه بإنقاص ساعات العمل وزيادة الرواتب في ظل غلاء المعيشة الذي لا يرحم أحدا..
وأشارت الى أننا في زمن الموازين المقلوبة "فالسرسرية يصولون ويجولون في المطاعم وفنادق العواصم وإبناءنا الذين لم يقترفوا جرما الا المطالبة بحقوقهم المشروعة خلف القضبان" فحسبنا الله ونعم الوكيل..
وتحدّثت بثقة عن أن المخابرات هي التي وزّعت حبوب الهلوسة والمخدّرات على بعض الشباب للسيطرة على عقولهم لتخريب الحراك ..
وتقول أم فهد العبيديين : رغم حرقتي كأُم تشتاق لأبنائها المسلوبة حريّتهم إلا أنني فخورة بفادي وبشقيقه "قصي" الذي اعتقل حين ذهب لزيارة فادي.. وتضيف: أرفع رأسي بهما فلم يُعتقل أي منهما على معصية او خطيئة ولم يرتكبا جرما ولم يُدنّسا عرضا..
وسبقتها دموعها وهي تقول: صحيح قلبي يتمزّق – كأي أم - ولكني صابرة ولن أستجدي أحدا ليخرجهما .. فالسجن للرجال وأعرف جيدا أنهما من خيرة الرجال..
التقينا زوجة فادي وطفلته الصغيرة واللتين تعيشان في كنف بيت العائلة ولن أتحدث عن هذا الأمر كثيرا لأن أبو فهد العبيديين أكّد أن ليس بالخبز وحده يحيا الانسان وأن الحراك في الطفيلة ليس بدافع الفقر فقط.. وليس بدافع أننا منسيين فقط .. ولكننا قررنا أن لا نسكت مجددا .. كما قال..
ويضيف ابو فهد العبيديين: نحن لا نستجدي أحدا.. ولا نحتاج مكارما .. ولنا في هذه البلد حقوق.. ولن نقبلها على شكل أُعطيات يتم تقطيرها علينا بصكّ الإذلال والتسكيت على مبدأ "إطعم الفم تستحي العين" وقلّة الحياء في السكوت عن الظلم والسرقة وبيع الوطن قطعة قطعة..
وأشار الى أنه ومنذ 14 شهرا وأبناءه في الحراك وأنه لطالما شجّعهما وكان معهما وأنه أرسل ابنه "قصي" لزيارة شقيقه فادي بعد اعتقاله .. فتمّ اعتقال قصي من على بوابة السجن فالتحق بأخيه وأنه فخور بهما وبكلّ ماهما ورفاقهما عليه وأنه حتى لو تمّ اعتقال الابن الثالث "أُسيد" وهو في الثانوية العامة فلن يُضنيه الأمر ولن يُخضعه ولن يدفعه للصمت.. وقال: فإن أنا منعت ابني خوفا عليه وذاك أمسك ابنه خوفا عليه كيف سيتم الإصلاح وكيف سنعيد الحق المسروق الى أصحابه.. وتراب بلدي أهمّ من أبنائي وعند "الجد" أعتبرهم ثمنا وفداء للوطن ..
وأشار أبو فهد العبيديين الذي عمل سابقا ممرضا بيطريا في محمية ضانا عن أن محافظة الطفيلة من أغنى بقاع الدنيا .. وعدّد تباعا : فوسفات – اسمنت- نحاس – منغنيز – صخر زيتي- وذهب.. من خيرات الطفيلة.. وأضاف: محمية ضانا أخذها "أنيس المعشّر" كي لا يكشف او يكتشف أحد حقيقة تلك الخيرات التي فيها ولا نرى الا سيارات اسرائيلية تمرّ من وادي عربة تتردد على المحمية وفندقها كل حين.. وأورد قصة لحوار طريف دار بينه وبين طارق أنيس المعشر سنفرد له ولكل ما له علاقة به وبمحمية ضانا موضوعا خاصا..
وفي نهاية حوارنا معه ردّد أبو فهد هذا البيت:
لا بأس ياوطن الأحرار ياوطني تُخشى الخنازير ولكن ليس تُحترم
صدقت يا أبا فهد .. وصدقت المقولة والقائل..
بالفعل .. تُخشى الخنازير ولكن ليس تُحترم..
• ملاحظة : كنت أنوي ضمّ حواري مع عائلة أبو فهد العبيديين مع حواري مع ام عمّار القبالين ولكن وجدتّ انه من الإجحاف بحقّ أم عمّار وبحق القارئ أن أفعل .. لطيلة ما سأكتب ولأهمية ما قالت أم عمّار .. فاسمحوا لي أن أنشر حواري مع ام عمّار بعد يومين بشكل منفصل.. ودمتم سالمين..
No comments:
Post a Comment